تاماينوت : الأصول، النشأة والهوية
بعد إلغاء معاهدة الحماية سنة 1956، أخذت القضية الأمازيغية أبعادا مختلفة، حيث قطعت أشواطا لا يعي مداها إلا الذين ضحوا من أجل أمازيغية المغرب وما يرتبط بها من إحقاق للحقوق وتكريس للواجبات، شأنهم في ذلك شأن أولئك الذين جعلوا من تحقير أمازيغية المغرب جواز مرور إلى التحكم في دواليب السلطة بكل مستوياتها وتجلياتها وكذا التأصيل لرؤى غريبة عن منظومة قيمنا.
بين الأمس واليوم، مرت مياه كثيرة تحت جسر بني بسواعد بناة الحركة الأمازيغية وحلفائهم الديمقراطيين على قلتهم، الذين كانوا في الخنادق الأمامية يواجهون مؤامرات المتآمرين الطامحين إلى تزييف تاريخ المغرب وحاضره، في أفق ولوج مستقبل يكون على مقاس مصالح أبناء وحفدة من وقعوا معاهدة الحماية و حماية مصالح كل المتخاذلين الذين فاوضوا قوى الحماية والاستعمار من أجل خروج شكلي لها في إطار استمرار المصالح المشتركة القائمة على استنزاف خيرات البلاد و تهميش طاقاته الجماعية والفردية وتزييف تاريخ البلد ووعي الشعب وهوية الأرض والوطن والعبث بقيمه وبثرواته الثقافية و اللغوية.
بين زمن توقيع معاهدة الحماية وتاريخ إلغائها، عرف المغرب أحداث بطولية نسجت بدماء وتضحيات شهداء بوكافر وأنوال وأيت باعمران والهري وإيكوفيان وغيرها من ساحات التضحية. بين الزمنين عرف المغرب تشكل طوابير من المتخاذلين وتجار الأزمات والحربائيين الذين كانت ألسنتهم تنطق بما يحب أن يسمعه مستمعيهم حسب الظرف، في حين كانت قلوبهم وأفعالهم مع قوى الاستعمار التي كانت تعتبرهم ورثتها في ما بعد إلغاء معاهدة الحماية.
في ذلك التاريخ، الذي لم يعايشه كل المغاربة، لكنهم مازالوا يئنون تحت وقع نتائجه، بعد أن تمكن تحالف قوى الحماية والعائلات المخزنية من التحكم في سلطة الدولة وأدوات الإكراه والإنتاج التي تتوفر عليها، ولدت المقاومة الشعبية التي وإن خانتها الإمكانيات، فإنها تسلحت بالوعي، وقيم الإباء، والنزوع الفطري إلى المساواة والعدل وتربية الأجيال ورفض الخنوع والظلم والتشبث بهويتها ولغتها وثقافتها، والصمود أمام كل إغراءات ودعوات الاستلاب والتعريب والفرنسة القسريين.
بعد إلغاء معاهدة الحماية، استمرت المقاومة رغم المؤامرات والقمع والعنف والتهميش الممنهج لغالبية مناطق الوطن، في التشبث برأسمالها الحقيقي المتمثل في أمرين اثنين : الصمود أمام التفقير والتجهيل ثم التشبث باللغة والثقافة والهوية ومنظومة القيم. هذا الرأسمال هو الذي اشتغلت عليه نخبة من المتعلمين المنحدرين من أوساط المقاومة والمغرب العميق، و جعلت منه منفذا إلى الوعي بالذات، استهدف خلق بؤر للصمود الثقافي واللغوي والهوياتي في المدن. كما أن رأسمال المقاومة، ذاك، تم توظيفه من طرف حركات معارضة يسارية في مناطق مختلفة اتخذت شكل انتفاضات مسلحة في مراحل معينة، كما تم توظيفه في محاولتين لقلب نظام الحكم من طرف جزء من النخبة العسكرية، ما زالت بعض الدراسات تعتبرها محاولات انقلاب بزعامة “ضباط برابرة”. و رغم ما يحيط بكل تلك الأحداث من تكتم وشح في المعلومات وتضاربها أحيانا، وفي انتظار البحث العلمي الرصين والاشتغال عليها بعيدا عن المصالح وقريبا من الحقيقة التاريخية، يمكن التأكيد بأن خيار الصمود والوعي بالذات هو الذي نجح في تحقيق المكاسب والمساهمة في عملية التدافع.
لقد كان تأسيس منظمة تاماينوت ” الجمعية الجديدة للثقافة والفنون الشعبية سابقا” ، يوم 16 أكتوبر 1978، نقلة نوعية في مسار المقاومة والوعي بالذات وإستراتيجية التحرك عن طريق البؤر الثقافية. وتكمن خصوصيتها في المشارب المختلفة لمؤسسيها، والتي كانت يسارية جذرية في جانب وأكاديمية في جانب آخر، لكنها كانت منفتحة على من سبقها من تجارب في هذا الميدان، ويؤكد ذلك انخراط تاماينوت مبكرا في العمل الأمازيغي المشترك الذي كانت تحتضنه الجامعة الصيفية بأكادير.
شكل تأسيس منظمة تاماينوت فصلا مهما في تاريخ الحركة الأمازيغية بالنظر إلى مضمون ورقتها الثقافية لسنة 1981، التي ركزت على جعل الإشكالات اللغوية والثقافية روافع ومحفزات تمكن الجماهير الشعبية من نزع حقوقها في العدالة والكرامة والمساواة. وبهذه المقاربة الجديدة لوظائف اللغة والثقافة الأمازيغيتين بالمغرب، فتحت تاماينوت صفحة جديدة في كتاب الحركة الأمازيغية الذي بدأ صفحته الأولى بمادة الوعي الحداثي بالذات، ثم الوعي العميق بالذات لتفتح بعده صفحة الوظائف الجديدة للغة والثقافة الأمازيغيتين في سبيل إحقاق الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغوية.
وقد كان من نتائج هذا التوجه الجديد داخل الحركة الأمازيغية، الانتقال من البؤر الثقافية داخل الحواضر الكبرى : الرباط ، أكادير، الناظور، الدارابيضاء…إلى الانتشار الأوسع في المدن الصغرى والقرى. و كان لمنهج الفروع الذي أرسته تاماينوت دورا كبيرا في تشجيع الشباب الامازيغي على تأسيس الجمعيات والانخراط فيها.
ساهم هذا التنامي في الوعي وهذا الانتشار التنظيمي، في ظهور الحاجة إلى مجهود توفيقي بين الفعاليات الأمازيغية، يروم الاتفاق على الأهداف الكبرى وخلق التقارب في زوايا النظر إلى الإشكالات ليس فقط ذات الطابع اللغوي والثقافي والهوياتي، بل أيضا ذات البعد السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فكان ميثاق أكادير الذي ساهمت فيه تاماينوت، بداية لعمل امازيغي مشترك ذي أهداف واضحة، وشكل بذلك نقطة مفصلية في تاريخ الحركة الأمازيغية، أرخت لما قبل 5 شتنبر 1991 وكانت نبراسا حقيقيا لما بعده.
إن هذا التسلسل المنطقي في الأحداث -والذي يعد ثمرة لنمو طبيعي لحركة هي بذاتها استمرار معقلن لحركة المقاومة بآليات جديدة وبوعي جديد، يعتمد التراكم منهاجا وقياس درجة حرارة الوضع السياسي أسلوبا- هو الذي يفسر نجاح التنسيق الوطني بين الجمعيات الأمازيغية في تحقيق الأهداف التي من أجلها أسس سنة 1993، قبل أن يستنفد وجوده بعد تنامي المد التنظيمي والنضالي الامازيغي، خصوصا مع تعدد المبادرات التنسيقية، سواء الاحتجاجية منها (كتنسيق تاوادا الذي ولد مع النقاش الوطني حول التربية و التكوين سنة 1999)، أوالمرافعاتية (كالحراك الامازيغي في إطار البيان من أجل الاعتراف بأمازيغية المغرب سنة 2000 ).
لقد ساهمت منظمة تاماينوت في هاتين المحطتين التاريخيتين للحركة الأمازيغية ، فكانت تنسق إلى جانب تنظيمات مدنية أمازيغية أشغال الإعداد لتاوادا، ففتحت مقراتها أمام لقاءات التنسيق والإعداد، كما أنها اتخذت موقفا إيجابيا من بيان الاعتراف بأمازيغية المغرب، والذي ساهم في توقيع هذا الأخير من طرف منخرطي تاماينوت الذين ساهموا في إنجاح لقاءات لجان التنسيق المحلية منها والوطنية.
إن المبادئ المؤسسة لتاماينوت والتدبير الديمقراطي الذي اعتمدته، مكناها من مواكبة الانتقال من حكم الراحل الحسن الثاني إلى حكم محمد السادس، دون غلو في تقدير قيمة الانتقال ودون تبخيس لما يمكن أن ينتج عنه من إصلاح لأسلوب الحكم وتسريع مسلسل الدمقرطة، الذي اعتبرت تاماينوت بأنه محكوم بالسير نحو الأمام وإلا غادره ركابه في حال توقف عن السير. إن هذا المنهاج في التفكير، هو الذي قاد تاماينوت لتدبير مرحلة ما بعد تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية اعتمادا على منهاج المواكبة النقدية للتدبيرالجديد للملف الامازيغي من طرف الدولة.
فعلى الرغم من أن تكلفة هذا الموقف ثقيلة على منظمة أمازيغية كان ينظر لها بأنها قائدة المواقف الجذرية داخل الحركة الأمازيغية، إلا أن التاريخ اليوم أنصف تاماينوت وأكد الجدوى من ذلك الموقف التاريخي الذي اتخذته، خصوصا وأن الحركة الأمازيغية بكل أطيافها اليوم، بما فيهم أشد المناهضين سابقا للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وما ارتبط به من سياسات، تجمع على أن ما روكم من مكتسبات خلال العشر سنوات الأخيرة يجب تحصينه و لا يجب السماح بالمساس به تحت أي مبرر كيفما كان.
إن هذا الوضوح في الرؤية الذي يرتكز على المبادئ المؤسسة للمنظمة، هو الذي جعل تاماينوت تتخذ موقفا جريئا من لجنة مراجعة الدستور التي عينها الملك محمد السادس بعد خطابه ليوم 9 مارس 2011، في إطار التعاطي مع حراك 20 فبراير الاحتجاجي و المطلبي بالمغرب. لقد رفضت تاماينوت لقاء لجنة مراجعة الدستور، بعد تلقيها دعوة مكتوبة من اللجنة، تأكيدا منها على رفض الطابع اللاديمقراطي الذي ميز تشكيل اللجنة، والخطوط التي رسمت لها، والتي أريد بها قطع الطريق أمام كل توجه يسعى إلى تحقيق تغيير دستوري ينتقل بالمغرب إلى نظام الملكية البرلمانية المؤسسة على فصل حقيقي للسلط وربط للمسئولية بالمحاسبة، وإنصاف حقيقي للأمازيغية، وآليات دستورية تضمن الحرية و الكرامة و العدالة في إطار ديمقراطية تشاركية، تقطع مع لعبة التفويض الانتخابي الذي تتحكم فيه آليات السوق و لوبيات المصالح.
تاماينوت : المشروع النظري والممارسة الميدانية
لقد ساهمت تاماينوت منذ نشأتها في بلورة وصياغة مشروع مجتمعي يلبي طموحات المواطنين الذين يطالهم التهميش والإقصاء، في مواجهة دولة الإقصاء والاستلاب و القهر و التهميش، فكانت كل خطواتها تنحوا منحى يرتكز على الدعامات الست للمشروع المجتمعي البديل، الذي يعتبر جزءا من ما يعتبر النموذج التوفيقي العالمي :
1. التسامح الثقافي المبنى على مبدأ النسبية الثقافية في مواجهة العنصرية
2. النسبية الفكرية في مواجهة الإطلاقية الأيديولوجية
3. إطلاق الطاقات الخلاقة للإنسان في سياقات ديمقراطية على كافة المستويات، تحترم ذكاءه و خصوصياته اللغوية و الثقافية و الهوياتية و منظومة قيمه.
4. العودة إلى إحياء المجتمعات المحلية و احترام خصوصياتها، وتقليص مركزية الدولة في أفق بناء الدولة الفدرالية، المؤسسة على التوزيع المنصف للثروة و السلطة .
5. توسيع هامش مشاركة المجتمع المدني في صناعة القرار و مراقبة تنفيذه و قياس أثره، في إطار ديمقراطية تشاركية، تقلص تأثير لوبيات المصالح و النتائج السلبية للتفويض الانتخابي.
6. التوازن بين القيم المادية والقيم الروحية والإنسانية.
و في كل مراحل ممارستها الميدانية، الممتدة على أزيد من ثلاث عقود، قامت كل مكونات تاماينوت بمحاولة تنزيل لهذه الدعامات حسب السياق و الموقف، فكانت تخوض مقارعات فكرية مؤثرة على الرأي العام مع النخب المحافظة على الطابع العنصري الاقصائي لسياسات الدولة معتمدة في ذلك على لسان حالها، جريدة تاسافوت التي صدر العدد الأول منها شهر دجنبر 1991، كما كانت تدير معارك أخرى من داخل التنظيمات الحقوقية بالمغرب، التي أبت بعض نخبها القيادية إلا الاستمرار في أدلجة حقوق الإنسان، واعتبار تلك التنظيمات الحقوقية ملحقات لتنظيمات قومية تفصل بين دول نشأتها و بين المغرب آلاف الكيلومترات. كما أن خطابها ( تاماينوت) المرتكز على المرجعية الدولية لحقوق الإنسان و على الإنصات لنبض الشعب و التجدر في التربة المغربية، خلق إحراجا كبيرا للكثير من المفكرين المغاربة الذين كانوا ينادون حتى وقت قريب و بدون حرج إلى إبادة “اللهجات الأمازيغية”.
لقد كانت تاماينوت في خطابها و ممارستها، تعبيرا محليا لمطالب كونية، و انعكاسا حقيقيا لما تعانيه الأرض المغربية ومن عليها من مظالم، وما تزخر به من طاقات و طموح جامح للتغيير و الإنصاف. و رغم شح الإمكانيات، في مقابل سيطرة الحركات الاستلابية المناهضة على أجهزة الدولة و إمكانياتها، و توفر بعضها الآخر على آليات و موارد دعم خارجية منها البعثية و الوهابية، استطاعت الحركة الأمازيغية و ضمنها تاماينوت كسب الكثير من المعارك الفكرية و التنظيمية. و تنامت بذلك البؤر الثقافية، لتصبح اكتساحا تنظيميا احتضنه الأفراد و الجماعات من شمال المغرب إلى جنوبه، و استطاعت كسب تعاطف دولي منذ أن قررت مجموعة من الجمعيات الأمازيغية تدويل القضية الأمازيغية شهر يونيو 1993 بمناسبة المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان بفيينا، و استمرار تاماينوت في رفع مشعل التدويل بانخراطها في الحركة العالمية للشعوب الأصلية، التي انعكس نجاحها في استصدار الإعلان العالمي لحقوق الشعوب الأصلية من الجمعية العامة للأمم المتحدة شهر سبتمبر 2007، على وضعية الشعب الامازيغي بتامازغا عموما و بالمغرب خصوصا.
لقد ساهم ربط نظرية، تحترم الأفراد و الجماعات في قيمهم و تاريخهم و لغتهم و ثقافتهم و طموحاتهم في الكرامة و الحرية و العدالة، بممارسة عقلانية تعتمد على الذكاء الفردي و الجماعي و لا تتوسل المنشطات و المحفزات من الخارج، في تحقيق ثورة في تعاطي أغلب النخب المغربية مع الإشكالات الثقافية و اللغوية و الهوياتية بالمغرب. كما ساهم في اختراق الخطاب الامازيغي لكل الحساسيات و التنظيمات المجتمعية، بيمينها و يسارها و إسلامييها و ليبرالييها، إلى حد أكدت معه أزيد من تسعون بالمائة من المذكرات حول المراجعة الدستورية التي تقدمت بها التنظيمات الحزبية و الحقوقية و النسائية و النقابية بالمغرب، على ضرورة ترسيم اللغة الأمازيغية و إنصافها في الوثيقة الدستورية، بعد أن أجمع شباب حركة عشرين فبراير، التي رأت النور يوم 20 فبراير 2011 في إطار احتجاجات و انتفاضات شعوب شمال إفريقيا و الشرق الأوسط، على أن ترسيم اللغة الأمازيغية في دستور ديمقراطي أحد دعامات أرضيتها التأسيسية.